آخر المواضيع

‏إظهار الرسائل ذات التسميات الصحابه والصالحين. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الصحابه والصالحين. إظهار كافة الرسائل

البخاري


فتح عينيه على الحياة فوجد العلم يحيط به من كل جانب، وشاهد منذ طفولته حلقات الحديث والفقه والتفسير تموج بطالبي العلم حول شيخ أو معلم زاده العلم بهاءً ووقارًا، فأحب أن يكون مثل هؤلاء وتطلعت نفسه إلى تحقيق ذلك، فكان له ما أراد؛ فملأ الدنيا علمًا، ورددت الألسنة ذكره إعجابًا وإجلالاً، أليس هو صاحب صحيح البخاري، إنه الإمام (محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة) الإمام الحافظ البخاري.
ولد بمدينة (بخارى) وهي تقع في جمهورية أوزبكستان سنة 194هـ، وكان والده عالم كبير يحفظ آلاف الأحاديث النبوية، ورحل في طلب العلم إلى المدينة
المنورة، وتتلمذ على أيدي كبار العلماء والمحدثين، أمثال: مالك بن أنس، وحماد بن زيد وغيرهما، وكان رجلا غنيًّا، أنعم الله عليه بثروة كبيرة كان ينفقها في الخيرات على الفقراء والمساكين.
توفي والد البخاري وتركه طفلاً مع والدته بعد أن ترك له مالا كثيرًا وعلمًا
نافعًا، وظلت أمه تعطف عليه وتحيطه بحنانها ورعايتها لتعوضه عن فقد أبيه، وما إن بلغ البخاري سن العاشرة حتى ظهرت عليه علامات الذكاء والتفوق؛ فحفظ القرآن الكريم وكثيرًا من الأحاديث النبوية، وتردد على حلقات علماء الحديث في بلده ليتعلم على أيديهم، وعمره إحدى عشرة سنة، وكان مع صغر سنه يصحح لأساتذته وشيوخه ما قد يخطئون فيه.
ومن ذلك ما روي عنه أنه دخل يومًا على أستاذه (الداخلي) فقال الداخلي: عن سفيان عن أبي الزبير عن إبراهيم، فقال له البخاري: إن أبا الزبير لم يروِ عن إبراهيم وقال له: ارجع إلى الأصل إن كان عندك، فدخل فنظر فيه، ثم رجع فقال: كيف هو يا غلام؟ فقلت: هو الزبير بن عدي عن إبراهيم، فأخذ القلم وأصلح كتابه، وقال لي: صدقت.. وقد ساعد البخاري على ذلك حفظه الجيد للأحاديث، وذاكرته القوية والكتب الكثيرة التي تركها له والده، فحفظها ودرسها دراسة جيدة، وأصبح البخاري -ذلك الغلام الصغير- يحترمه الشيوخ ويقدرونه حق قدره، ولِمَ لا، وهو يحفظ في هذه السن كتب ابن المبارك ووكيع بن الجراح وهما من أئمة الحديث النبوي وكثير من الأحاديث؟!
فقد قرأ على زملائه خمسة عشر ألف حديث عن ظهر قلب، وفي كل يوم كان البخاري يزداد علمًا، وكان مشايخه يأملون له خيرًا ويتوقعون له مستقبلا
كريمًا، وكان من الممكن أن يقنع الفتي الصغير بذلك القدر من العلم، ولكنه رحل مع والدته وأخيه الأكبر أحمد إلى مكة المكرمة لتأدية فريضة الحج وعمره ستة عشر عامًا ولما أدى الفريضة استقر هناك يتعلم الحديث على أيدي علماء مكة وشيوخها، ثم رحل إلى المدينة المنورة فزار قبر الرسول صلى الله عليه وسلم.
وظل في المدينة المنورة سنة، ثم رحل إلى البصرة ليسمع الحديث، ومكث بها خمس سنوات، كان يتردد فيها على مكة المكرمة في مواسم الحج؛ ليلتقي فيها بعلماء المسلمين، وظل البخاري ينتقل في بلاد الإسلام لطلب العلم.
يقول البخاري عن نفسه: لقيت أكثر من ألف رجل، أهل الحجاز والعراق والشام ومصر لقيتهم مرات؟ أهل الشام ومصر والجزيرة مرتين، وأهل البصرة أربع
مرات، ومكثت بالحجاز ستة أعوام، ولا أحصي كم دخلت الكوفة وبغداد مع محدِّثي خراسان.
كتب البخاري الحديث وسمعه عن ألف وثمانين من الشيوخ وحفاظ الحديث، وكان يدوِّن الأحاديث الصحيحة، ويترك الأحاديث التي يشك في أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قالها، وقد أدهش البخاري العلماءَ والشيوخَ لسرعة حفظه للأحاديث حتى ظنوه يشرب دواءً للحفظ، فقد كان البخاري ينظر إلى الكتاب مرةً واحدة فيحفظ ما فيه من أحاديث لا يستطيع غيره أن يحفظها في شهور عديدة.
وفي أحد رحلاته إلى بغداد أراد العلماء أن يختبروه فاجتمعوا واختاروا مائة
حديث، وقلبوا متونها وأسانيدها أي أسندوا الأحاديث إلى غير رواتها، ليمتحنوا حفظه، ودفعوا إلى كل واحد عشرة أحاديث ليلقوها على البخاري في المجلس، فقام أحدهم فسأل البخاري عن حديث من عشرته، فقال: لا أعرفه، وسأله عن آخر فقال: لا أعرفه وهكذا حتى فرغ من أحاديثه العشرة، ثم قام آخر فسأل
البخاري، وكذلك الثالث والرابع إلى آخر العشرة..
فلما فرغوا التفت البخاري إلى الأول منهم فقال له: أما أحاديثك: فالأول قلت كذا وصحته كذا، والثاني قلت كذا وصحته كذا ... إلى آخر العشرة أحاديث؛ وفعل بالآخرين مثل ذلك، عندئذ أقر له الناس بالحفظ.
وكان البخاري عالمًا كبيرًا إذ كان يحفظ مائة ألف حديث صحيح، ومائتي ألف حديث غير صحيح، مما جعل عشرات الآلاف من طلاب العلم يلتفوا حوله؛ لينهلوا منه ويتتلمذوا عليه، ومن أشهرهم الإمام مسلم صاحب كتاب الجامع الصحيح، وقد أثني العلماء على البخاري، فقال ابن خزيمة: ما تحت أديم السماء أعلم بالحديث من محمد بن إسماعيل البخاري.. وقال قتيبة بن سعيد: جالست الفقهاء والعباد والزهاد فما رأيت منذ عقلت مثل محمد بن إسماعيل (البخاري) وهو في زمانه كعمر في الصحابة .
وكان البخاري كثير العبادة لله -عز وجل- يجتمع مع أصحابه في أول شهر
رمضان، فيصلى بهم ويقرأ في كل ركعة عشرين آية، ويظل هكذا إلى أن يختم القرآن، وكان يقرأ في السحر ما بين النصف إلى الثلث من القرآن، وكان يختم بالنهار في كل يوم ختمة ويقول: عند كل ختمة دعوة مستجابة، وكذلك كان ينفق من أمواله الكثيرة التي ورثها عن أبيه على الفقراء من
المسلمين، وتعلم البخاري رمي السهام، ولم يشغله طلب العلم عن ذلك، بل إنه كان يرى ذلك واجبًا على كل مسلم؛ حتى يستطيع الدفاع عن ديار المسلمين.
وعاد البخاري إلى بلدته (بخارى) فاستقبله أهلها أروع استقبال، ومن فرحتهم الشديدة بقدومه نثروا عليه الدراهم والدنانير، فعقد جلسات للعلم في مسجده ومنزله ليورث علمه للمسلمين، ولم يبخل البخاري بعلمه على أحد، غير أن أمير بخارى (خالد بن أحمد) طلب منه أن يأتيه بكتبه؛ حتى يسمعها له ولأولاده في قصره وحدهم، فرفض البخاري أن يستجيب لطلبه، وقال: من أراد أن يتعلم فليأت إلى مجلس العلم، فالعلم يؤتى له ولا يأتي، ولا يمكنني أن أحرم الناس الآخرين من
علمي، وقال لرسول الأمير قل له: إني لا أذل العلم ولا أحمله إلى أبواب السلاطين فإن كان له إليَّ شيء منه حاجة فليحضر في مسجدي أو في داري، وإن لم يعجبه هذا فإنه سلطان فليمنعني من الجلوس، ليكون لي عُذر عند الله يوم القيامة لئلا أكتم العلم.
وظل الإمام البخاري عزيزًا كريمًا، لا يخضع لأحد مهما كان مركزه وقدره، فأحبه الناس، وأراه الله في حياته قبل مماته منزلته ومكانته، حيث كان الناس ينصرونه بأنفسهم حفظًا للعلم والعلماء، وكتب إليه أهل بغداد يومًا قائلين:
المسْلِمَونَ بِخَيـْرِ مَا بَقِيـتَ لَهَــمْ
وَلَيْسَ بَعْدَكَ خَيْــرٌ حِـينَ تُفْتَقَــــدُ
وقد كتب الإمام البخاري الكثير من الكتب النافعة؛ من أشهرها: كتابه
(الجامع الصحيح) المعروف بصحيح البخاري الذي كان يغتسل ويصلى ركعتين لله قبل أن يكتب أي حديث فيه، وقد كتبه في ست عشرة سنة، ويعد أصح كتب الحديث على الإطلاق وألف أيضًا (التاريخ الكبير) في تراجم رجال
الحديث، و(الأدب المفرد).
وقد توفي البخاري ليلة عيد الفطر سنة 256هـ بعد أن ملأ الدنيا بعلمه وأضاءها بإخلاصه.. رحم الله البخاري جزاء ما بذل وقدم.

سفيان الثوري

في مدينة الكوفة، ولد (سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري) أحد الأئمة الأعلام
سنة 97هـ، وتفتحت عينا سفيان على الحياة، فوجد كتب الحديث والفقه تحيط به من كل جانب، فقد كان والده من العلماء الكبار الذين يحفظون أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
نشأ سفيان في أسرة فقيرة صالحة تعبد الله حق عبادته، وكانت أمه تنظر إليه وهو مازال طفلاً وتقول له: (اطلب العلم وأنا أعولك بمغزلي، وإذا كتبت عشرة
أحرف، فانظر هل ترى في نفسك زيادة في الخير، فإن لم تَرَ ذلك فلا تتعبن
نفسك).. فيالها من أم صالحة!! لا تفكر في الجاه ولا الثراء، ولكن كل ما كانت ترجوه لولدها أن يتعلم علمًا نافعًا يبتغي به وجه الله، وبدأ (سفيان) يتعلم ويجعل من والده قدوة صالحة له، ويستجيب لرغبة والدته التي أحبها من قلبه.
ومرت الأيام، وأصبح سفيان شابًّا فتيًّا، وفي إحدى الليالي أخذ يفكر ويسأل نفسه: هل أترك أمي تنفق علي؟ لابد من الكسب والعمل .. لأن أخلف عشرة آلاف درهم أحاسب عليها، أحب إليَّ من أن أحتاج إلى الناس؛ فالمال ضروري للإنسان حتى ولو كان عابدًا زاهدًا، ومن أجل ذلك عمل سفيان بالتجارة، ولم يكن المال هدفه في الحياة، بل وهب سفيان نفسه للعلم وأخذ يتعلم ويحفظ أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصبح في دنياه لا يطلب إلا العلم، فكان يقول: (الرجل إلى العلم أحوج منه إلى الخبز واللحم).
واشتهر سفيان بين الناس بعلمه وزهده وخوفه من الله، وظل طالب علم، متواضعًا يتعلم ويستفيد من الآخرين، يستمع إليهم، ويحفظ ما يقولون، وينشر ما تعلمه على الناس، يأمر بالمعروف، وينهي عن المنكر، ويملي عليهم أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان سفيان الثوري إذا لقي شيخًا سأله: هل سمعت من العلم شيئًا؟ ولقد منحه الله ذاكرة قوية فحفظ الآلاف من أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التي كان يحبها أكثر من نفسه.
كان ينصح العلماء ويقول لهم: (الأعمال السيئة داء، والعلماء دواء، فإذا فسد العلماء فمن يشفي الداء؟!) وكان يقول: (إذا فسد العلماء، فمن بقي في الدنيا يصلحهم) ثم ينشد:
يا معشرَ العلماءِ يا مِلْحَ البلدْ
ما يصلح الملحَ إذا الملح فَسَدْ
وبمرور الأيام، كانت شهرة سفيان الثوري تزداد في بلاد الإسلام، ويزداد معها احترام الناس له، لخلقه الطيب، وعلمه الغزير، وحبه لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته، حتى إن أحد العلماء قال عنه: ما رأيت أحدًا أعلم من
سفيان، ولا أورع من سفيان، ولا أفقه من سفيان، ولا أزهد من سفيان، وكان الناس يتسابقون إلى مجلسه ويقفون بباب داره في انتظار خروجه.. قال عنه شعبة وغيره: سفيان أمير المؤمنين في الحديث، وقال عبد الرحمن بن مهدي: ما رأيت أحفظ للحديث من الثوري.
ولذلك كان ينصح الناس قائلاً: أكثروا من الأحاديث؛ فإنها سلاح، وكان يتجه إلى الشباب الذي كان ينتظر خروجه من منزله ويقول لهم: (يا معشر الشباب تعجلوا بركة هذا العلم) وكان سفيان لا يخشى أحدًا إلا الله، كثير القراءة للقرآن
الكريم، فإذا تعب من القراءة وضعه على صدره، حريصًا على الصلاة في الثلث الأخير من الليل، وإذا نام قام ينتفض مرعوبًا ينادي: النار النار.. شغلتني النار عن النوم والشهوات، ثم يطلب ماء، فيتوضأ ثم يصلى فيبكي بكاء شديدًا.
عاش سفيان حياته كلها يدعو إلى الله، وكانت سعادته في هداية إنسان عاصٍ أحب إليه من الدنيا وما فيها، وعرض عليه أن يكون قاضيًا فهرب خوفًا من الحساب أمام الله، وأرسلت إليه هدايا الملوك والأمراء فرفضها، فعاش حياته لله، وفي سبيل
الله، وبعد هذه الحياة الكريمة في خدمة الإسلام والمسلمين، مات سفيان الثوري بالبصرة في شعبان سنة 161هـ.

ابن تيمية


 شيخ الإسلام !!
سقطت (بغداد) في يد التتار، فأخذوا يخربون البلاد، ويأسرون العباد، والناس يفرون من أمامهم، وقد ساد الناس ذعر شديد، وفي هذا الوقت العصيب وُلِد
(تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية) في (حران) بالغرب من دمشق في
يوم الاثنين 10 ربيع الأول 661هـ الموافق 12 يناير 1263م، بعد سقوط بغداد في أيدي التتار بثلاث سنوات.
وخوفًا من بطش التتار انتقل به والده إلى (دمشق) وكانت مليئة بالعلماء
والمدارس، فأخذ يتلقى العلم على علمائها وشيوخها حتى وصل عدد شيوخه إلى (200) شيخ، وتفوق (ابن تيمية) في دراسة الحديث والفقه والخط والحساب والتفسير وسنه لا تتجاوز عشر سنوات، فقد كان الطفل الصغير (ابن تيمية) سريع الحفظ، قوي الذاكرة، حتى أدهش أساتذته وشيوخه من شدة ذكائه.
ولم يكن الطفل الصغير (ابن تيمية) كغيره من الأطفال يلعب ويلهو، بل كان يسارع إلى مجالس العلماء يستمع إليهم، ويستفيد منهم، ولما بلغ السابعة عشرة من عمره بدأ في التأليف والإفتاء، فاتسعت شهرته وذاع صيته، ولما توفي والده الذي كان من كبار الفقهاء في الفقه الحنبلي؛ تولى التدريس بدلاً منه.
كان الإمام (ابن تيمية) جريئًا في إظهار رأيه، مدافعًا عن السُّنَّة حتى سمي
بـ(محيي السنة).. عاش ابن تيمية فترة صباه أيام حكم الملك الظاهر بيبرس لمصر والشام الذي عُني بالجهاد في سبيل الله، فوقف (ابن تيمية) معه ثم مع السلطان قلاوون، وجاهد بسيفه ضد التتار الذين هجموا على البلاد، وذهب على رأس وفد من العلماء وقابل (قازان) ملك التتار، وأخذ يخوفه مرة ويقنعه مرة أخرى حتى توقف زحف التتار على دمشق، وأطلق سراح الأسرى.
وكان ابن تيمية قوي الإيمان، فصيح اللسان، شجاع القلب، غزير العلم، وكان وحده قوة عظمى يحسب لها الأعداء ألف حساب، فازداد الناس تعلقًا به، والتفافًا حوله، وظل ابن تيمية يقضي وقته بين التدريس في المساجد، وتبصير الناس بأمور دينهم، وبيان ما أحل الله وحرم، والدفاع عن سنة الرسول صلى الله عليه
وسلم، ولكن أعداءه ومنافسيه كانوا له بالمرصاد، فأوقعوا بينه وبين سلطان
مصر والشام (ركن الدين بيبرس الجاشنكير) فنقل إلى مصر وتمت محاكمته بحضور القضاة وكبار رجال الدولة، فحكموا عليه بالحبس سنة ونصف في القلعة، ثم أخرجوه من السجن، وعقدوا جلسة مناظرة بينه وبين منافسيه وخصومه، فكسب (ابن تيمية) المناظرة، ورغم ذلك لم يتركه الخصوم فنُفِي إلى الشام، ثم عاد مرة أخرى إلى مصر وحبس، ثم نقل إلى الإسكندرية حيث حبس هناك ثمانية أشهر.
واستمرت محنة (ابن تيمية) واضطهاده إلى أن عاد إلى القاهرة حيث قرر السلطان الملك (الناصر محمد بن قلاوون) براءته من التهم الموجهة إليه، وأعطاه الحق في عقاب خصومه الذين كانوا السبب في عذابه واضطهاده، لكن الإمام (ابن تيمية) فضَّل أن يعفو عنهم !! وهكذا تكون شيم الكرام.
وظل (ابن تيمية) في القاهرة ينشر العلم، ويفسر القرآن الكريم، ويدعو المسلمين إلى التمسك بكتاب الله وسنة رسوله، ثم رحل إلى (دمشق) بعد أن غاب عنها سبع سنين، وخلال وجوده هناك أفتى في مسألة، فأمره السلطان بأن يغير رأيه فيها، لكنه لم يهتم بأوامر السلطان وتمسك برأيه وقال: (لا يسعني كتمان العلم) فقبضوا عليه وحبسوه ستة أشهر، ثم خرج من سجنه، ورجع يفتي بما يراه مطابقًا لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
لكن خصومه انتهزوا فرصة إفتائه في مسألة شد الرحال إلى قبور الأنبياء
والصالحين، فقد كان (ابن تيمية) يرى أن تلك الزيارة ليست واجبة على
المسلمين، فشنَّعوا عليه حتى حبس هو وأخوه الذي كان يخدمه، ورغم ذلك لم ينقطع عن التأليف والكتابة، لكنهم منعوه من ذلك، فأرادوا كتمان صوت علمه
أيضًا، فأخرجوا ما عنده من الحبر والورق، فلم تلن عزيمته ولم تضعف همته
وتحداهم، فكان يكتب بالفحم على أوراق مبعثرة هنا وهناك، وكان من أقواله (حبسي خلوة، وقتلي شهادة، ونفيي سياحة).
وقد توفي (ابن تيمية) عام 728هـ وهو على حاله صابرًا مجاهدًا، مشتغلاً
بالعلم، وحضر جنازته أكثر من خمسمائة ألف مسلم، وله مؤلفات كثيرة تجاوزت ثلاثمائة مجلد أغلبها في الفقه وأصوله والتفسير، ومن أهم كتبه (منهاج السنة)
و(درء تعارض العقل والنقل) و(اقتضاء الصراط المستقيم) و(الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان) و(الصارم المسلول على شاتم الرسول) و(الفتاوى الكبرى) و(مجموع الفتاوى) و(السياسة الشرعية في صلاح الراعي والرعية).

العز بن عبد السلام

عز الدين بن عبد السلام
قل لي بالله عليك.. مالك لا تخاف سطوةً ولا سلطانًا.. تهابك الملوك
والسلاطين، وأنت الذي لا تحمل في يدك سوطًا ولا سيفًا؟‍! عفوًا يا سلطان
العلماء، لا تجب، فقد تذكرت أنك كنت عبدًا طائعًا لله، تطيع أوامره، وتجتنب نواهيه، يعلو صوتك بالحق في وجه الطغاة، فمنحك الله قوة وعزة!!
تمكن التتار من إسقاط الخلافة الإسلامية في بغداد عام 656هـ، وواصلوا غزوهم إلى الشام ومصر حاملين معهم الخراب والدمار، فهاجر إلى مصر والشام أعداد غفيرة من العلماء، وأصبحت هذه البلاد مركزًا للعلم حيث انتشرت فيها المساجد
والمدارس، ووفد إليها طلاب العلم، من كل مكان ليدرسوا علوم القرآن والتفسير والحديث والفقه والنحو والصرف والتاريخ، إلى جانب الفلسفة والفلك والهندسة والرياضيات.. وغيرها.
وسط هذا الجو الذي يشجع على التعلُّم والدراسة، ولد بدمشق عام 577هـ
(عز الدين عبد العزيز بن محمد بن عبد السلام) ففتح عينيه على الحياة ليجد أسرته تعاني من الفقر وضيق العيش، ونشأ عز الدين على حب العلم، فسمع الحديث الشريف من العالم الجليل (فخر الدين ابن عساكر) الذي اشتهر بعلمه وزهده، وتعلم على يد قاضي قضاة (دمشق) الشيخ (جمال الدين بن الحرستاني) وغيرهما من الأساتذة الكبار، حتى أصبح عالمًا له مكانته المرموقة بين أساتذته.
وكان منصب الخطابة في الجامع الأموي (بدمشق) منصبًا عظيمًا لا يتولاه إلا كبار العلماء، فتولاه (عز الدين بن عبد السلام) فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وصدع بكلمة الحق، ولم يكن يخشى في الله لومة لائم، فحارب كل بدعة، وأمات كل ضلالة، وكان يقول: (طوبى لمن تولى شيئًا من أمور المسلمين، فأعان على إماتة البدع وإحياء السنن).
وفي عام 635هـ ولاه السلطان الكامل الأيوبي قضاء دمشق، لكنه لم يستمر فيه طويلا، بل تركه في العام نفسه عندما تولى الحكم (الصالح إسماعيل) الذي كان على خلاف مع الشيخ عز الدين؛ لأن الملك الصالح تحالف مع الصليبيين، وأعطاهم بيت المقدس وطبرية وعسقلان، وسمح لهم بدخول دمشق، وترك لهم حرية الحركة
فيها، وشراء السلاح منها، وفوق ذلك وعد الصليبيين بجزء من مصر إذا هم نصروه على أخيه نجم الدين أيوب سلطان مصر، فلم يرضَ الشيخ عز الدين بهذا الوضع المهين، فهاجم السلطان في خطبه من فوق منبر المسجد الأموي هجومًا عنيفًا، وقطع الدعاء له في خطب الجمعة، وأفتى بتحريم بيع السلاح للصليبيين أو التعاون
معهم، ودعا المسلمين إلى الجهاد.
غضب السلطان الصالح إسماعيل، وأمر بعزل (عز الدين) من إمامة المسجد
الأموي، ومنعه من الفتوى والاتصال بالناس، ولم يكتف بذلك، بل منعه من الخروج من بيته، فقرر عز الدين الهجرة من (دمشق) إلى (مصر) فلما خرج منها
عام 638هـ ثار المسلمون في (دمشق) لخروجه، فبعث إليه السلطان أحد
وزرائه، فلحق به في نابلس، وطلب منه العودة إلى دمشق، فرفض، فقال له الوزير: بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وإلى ما كنت عليه وزيادة أن تنكسر
للسلطان، وتعتذر إليه وتقبل يده لا غير.
فقال عز الدين: والله يا مسكين، ما أرضى أن يقبل السلطان يدي، فضلاً عن أن أقبل يده، يا قوم أنتم في وادٍ وأنا في وادٍ.. الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به، فقال له الوزير: قد أمرني السلطان بذلك، فإما أن تقبله، وإلا اعتقلتك، فقال: افعلوا ما بدا لكم!!
واعتقله جنود السلطان في نابلس، وظل في محبسه، حتى جاءت جنود مصر
وخلصته، وجاء الشيخ عز الدين إلى القاهرة عام 639هـ فرحب به (نجم الدين أيوب) سلطان مصر، وولاه منصب قاضي القضاة، وخطيب مسجد عمرو بن العاص، واشتهر الشيخ بالعدالة في القضاء، والجرأة في الحق، حتى أحبه الناس والتفوا حوله.
وقد حدثت له حادثة أثناء توليه القضاء تدل على شجاعته وعدله: فقد أفتى العز بن عبد السلام أن أمراء المماليك حكام مصر في ذلك الوقت مازالوا عبيدًا رقيقًا، وأنه يجب بيع هؤلاء الأمراء لصالح بيت مال المسلمين وذلك لتحريرهم من عبوديتهم وعتقهم بالطريق الشرعي، حتى يجوز لهم أن يتصرفوا تصرف الأحرار، فكانت هذه الفتوى ضربة قاضية لهم، حطمت كبرياءهم، وعطلت مصالحهم بل إنهم أصبحوا مصدرًا لسخرية الناس بعد أن قوي نفوذهم، وزاد طغيانهم، وكثرت مظالمهم.
غضب الأمراء المماليك غضبًا شديدًا، وقدموا شكوى إلى السلطان، وطالبوه بأن يقنع العز بن عبد السلام، بالعدول عن رأيه، فتحدث معه السلطان في ذلك، وطلب منه أن يتركهم وشأنهم، فغضب عز الدين واستقال من منصب قاضي القضاة، وعزم على مغادرة مصر، فحمل أمتعته على حمار، وحمل أهله على حمار آخر، وسار خلفهم على قدميه خارجًا من القاهرة؛ وعندما علم الناس خرجوا وراءه، فخاف السلطان من الثورة، وقال له أعوانه: متى خرج عز الدين من مصر ضاع ملكك!! فركب السلطان بنفسه ولحق بالشيخ وطيب خاطره، لكنه لم يقبل أن يعود معه إلى القاهرة إلا بعد أن وافق السلطان على بيع الأمراء المماليك في مزاد علني.
رجع الشيخ وأمر بأن ينادي على الأمراء في المزاد، وكان من بين الذين سيباعون في المزاد نائب السلطنة، فغضب واشتد غيظه، ورفض أن يباع كما تباع الماشية، وصاح في كبرياء: كيف ينادي علينا هذا الشيخ ويبيعنا ونحن ملوك الأرض؟! والله لأضربنه بسيفي.
ركب نائب السلطان فرسه وأخذ معه جماعة من الأمراء، وذهبوا إلى بيت الشيخ يريدون قتله، وطرقوا الباب، فخرج ابن الشيخ فلما رآهم فزع ورجع إلى أبيه خائفًا يخبره بما رأى، ابتسم الشيخ في وجهه، وقال له: يا ولدي أبوك أقل من أن يقتل في سبيل الله، ثم خرج إلى أمراء المماليك، فنظر إليهم نظرة عزة وإباء، وأطال النظر إلى نائب السلطان الذي كان شاهرًا سيفه؛ فارتعدت مفاصل نائب السلطان وسقط السيف من يده، ثم بكى وسأل الشيخ أن يعفو عنه ويدعو له، وتمَّ للشيخ ما أراد وباع الأمراء في المزاد واحدًا واحدًا، وغالى في ثمنهم، ثم صرفه في وجوه الخير.
وكانت لسلطان العلماء (العز بن عبد السلام) مواقف إيمانية في ميدان الجهاد ضد التتار أعداء الإسلام والمسلمين، وكان له دور فعال في هذا الأمر، ولم يَرْضَ أن تتحمل جماهير الشعب وحدها نفقات الجهاد، وهو يعلم أن السلطان ورجاله لديهم أموال كثيرة فقال: إذا طرق العدو بلاد الإسلام وجب قتالهم، وجاز لكم أن تأخذوا من الرعية ما تستعينون به على جهادكم، بشرط ألا يبقى في بيت المال شيء، وأن يؤخذ كل ما لدى السلطان والأمراء من أموال وذهب وجواهر وحلي، ويبقى لكل الجند سلاحه، وما يركبه ليحارب عليه ويتساووا هم والعامة، وأما أخذ أموال الناس مع بقاء ما في أيدي الجند من الأموال، فلا.
وقد اشترك الشيخ (عز الدين) بنفسه في الجهاد المسلح ضد العدو، وكان دائمًا يحرض السلطان (قطز) على حرب التتار حتى كتب الله له النصر في (عين جالوت) عام 658هـ(1260م) وكان (العز بن عبد السلام) شجاعًا مقدامًا، فقد ذهب ذات مرة إلى السلطان في يوم عيد إلى القلعة، فشاهد الأمراء والخدم والحشم يقبلون الأرض أمام السلطان، وشاهد الجند صفوفًا أمامه، ورأى الأبهة والعظمة تحيط به من كل جانب، فتقدم الشيخ إلى السلطان، وناداه باسمه مجردًا، وقال: يا أيوب، ما حجتك عند الله إذا قال لك: ألم أبوئ لك مصر، ثم تبيح الخمور؟
فقال السلطان نجم الدين أيوب: هل جرى هذا؟
قال الشيخ: نعم تباع الخمور في الحانات وغيرها من المنكرات، وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة، وأخذ الشيخ يناديه بأعلى صوته والعساكر واقفون.
فقال السلطان: يا سيدي هذا أنا ما عملته، هذا من زمان أبي.
فقال الشيخ: أنت من الذين يقولون: إنا وجدنا آباءنا على أمة..
فأصدر السلطان أوامره بإغلاق تلك الحانات، ومنع تلك المفاسد، وشاع الخبر بين جمهور المسلمين وأهل القاهرة، فسأل أحد تلاميذ الشيخ عن السبب الذي جعله ينصح السلطان أمام خدمه وعساكره في مثل هذا اليوم الكريم؟ فقال الشيخ:
يا بني، رأيتُ السلطان في تلك العظمة، فأردتُ أن أذكره لئلا تكبر عليه نفسه فتؤذيه.. قال التلميذ: أما خفته؟ قال عز الدين: والله يا بني، استحضرتُ هيبة الله تعالى فلم أخف منه.
وكان (العز بن عبد السلام) رغم فقره كريمًا كثير الصدقات، فيحكى أنه لما كان بدمشق، وحدثت ضائقة، وعانى الناس من قلة المال، وانخفضت أسعار البساتين فأعطته زوجته مصاغها، وقالت: اشترِ لنا بثمنه بستانا نصيِّف فيه، فأخذ المصاغ وباعه وتصدق بثمنه، فسألته زوجته: هل اشتريت لنا بستانًا؟ قال: نعم، بستانًا في الجنة، إني وجدت الناس في شدة، فتصدقتُ بثمنه، فقالت: جزاك الله خيرًا.
وعاش الشيخ (عز الدين) 83 عامًا يدعو إلى الله ويجاهد في سبيله، يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر إلى أن توفي عام 660هـ، فخرج الرجال والنساء والشباب والأطفال يودعون سلطان العلماء، وصلى عليه سلطان مصر والشام -في ذلك الوقت- الظاهر (بيبرس).
وقد أشاد به العلماء والمؤرخون حتى أطلق عليه تلميذه شيخ الإسلام
(تقي الدين بن دقيق العيد) لقب (سلطان العلماء).. رحم الله العز بن عبد السلام رمز العزة والإباء.

الجويني


بين أحضان والدين حريصين على تنشئة أبنائهما تنشئة إسلامية صحيحة، ولد
عبد الملك بن عبد الله بن يوسف سنة 419هـ في جوين (وهي مدينة بين بسطام ونيسابور) ببلاد فارس، فوالده (عبد الله الجويني) كان يعقد في (نيسابور) ببلاد فارس المجالس للمناظرة والفتوى، وتعليم الخاصة والعامة، وكان يحب العلم حبًّا شديدًا حتى إنه كان يدعو ويقول: (اللهم لا تعقنا عن العلم بعائق ولا تمنعنا عنه بمانع) وكان زاهدًا عابدًا يحرص حرصًا شديدًا على ألا يقع في الشبهات، حتى إنه كان يحتاط في أداء الزكاة فيؤديها في السنة مرتين، خوفًا من النسيان وزيادة في القربى.
ولازم الطفل الصغير (عبد الملك) والده الفقيه المحدث المتكلم، فتعلم الفقه واللغة العربية على يديه، كما تعلم من والده الالتزام بأخلاق الإسلام كالأمانة والصدق وحب الخير؛ فقد كان والده خير قدوة له، وتفوق الجويني على زملائه ممن كانوا يتعلمون على يد أبيه، ولم يقتصر إمام الحرمين على قراءة العلوم الإسلامية
وحدها، بل إنه أخذ يطالع في كل العلوم، يصل ليله بنهاره قراءة واطلاعًا.
وقبل أن يبلغ (عبد الملك) سن العشرين أصبح أحد الأئمة الكبار، وما إن توفي
والده، حتى قعد مكانه للتدريس، إلا أنه استمر في تحصيل العلم، فكان يذهب إلى (أبي القاسم الإسفراييني) وهو من العلماء الكبار يتعلم منه الفقه والأصول، ويذهب في الوقت نفسه إلى مجالس (عبد الله محمد بن علي النيسابوري الخبازي) ليتلقى عنه علوم القرآن.
وظل طوال الفترة التي أقامها بنيسابور يدرس علوم الدين، وكان بارعًا في مناظرة الخصوم، يحاورهم في ذكاء شديد، ولا يبغي من وراء ذلك إلا إظهار الحق، إلا أن أعداءه أخذوا يكيدون له، فترك (نيسابور) إلى بغداد واشتهر هناك، ووفد إليه الناس من كل مكان للتعلم على يديه، لكنه لم يقم بها طويلاً، وإنما توجه إلى مكة، وظل بها أربع سنوات تفرغ فيها للعلم والعبادة ينشر العلم، ويلقي الدروس، ويجمع طرق المذهب الشافعي، وكانت هذه الفترة سببًا في تسميته بإمام الحرمين تكريمًا له واعتزازًا بمجهوده وقدره.
وكان يقضي نهاره في تعليم الناس، وهدايتهم إلى طريق الحق والنور، ويقضي ليله بجوار الكعبة الشريفة في عبادة الله، وبعد أن قضى أربع سنوات في مكة رجع إمام الحرمين إلى (نيسابور) وقام بالتدريس بالمدرسة النظامية، التي بناها له الوزير
(نظام الملك) ليتولى الجويني التدريس بها لما علمه عنه من رسوخ في العلم ونبوغ لم يتوافر لغيره، وظل بها نحو ثلاثين سنة، وجاء إليه الكثيرون من شتى البلاد يطلبون العلم على يديه، ومن أشهر تلاميذه: أبو حامد الغزالي، والكيا الهراسي، وعبد الغافر بن إسماعيل الفارسي.
وقد ترك (الجويني) مؤلفات عديدة من أهمها: كتاب (نهاية المطلب في دراية المذهب) وهو كتاب كبير في الفقه الشافعي و(البرهان في أصول الفقه) و(الإرشاد في أصول الدين) و(الرسالة النظامية) ومن كتبه أيضًا: (غياث الأمم في التياث الظلم) في الفقه السياسي الإسلامي و(الورقات) في أصول الفقه وأدلته.. وغيرها من
الكتب المهمة، وقد مرض إمام الحرمين في أيامه الأخيرة، وتوفي وله من
العمر 59 سنة، وكان ذلك سنة 478هـ.

ابن حزم


مُنَاي مِنَ الدُّنْيَا عُلُومٌ أَبُثُّهَــــا
وَأَنْشُرُهَا في كُلِّ بَادٍ وَحَاضِـرِ
دُعَاءٌ إلى الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ الَّتِـي
تَنَاسَى ذِكْرُهَا فِي المَحَاضِــــرِ
قد تحققت أمنيتك أيها الفقيه، فأفكارك وكتبك لها مكانة عظيمة في نفوس الكثيرين من أبناء الإسلام، يدرسونها بعناية، ويستفيدون منها، ويتخذون منها مصباحًا كلما ضل بهم الطريق.
في (مدينة) قرطبة الساحرة، إحدى مدن الأندلس وفي قصر أحد الوزراء، في أواخر شهر رمضان في عام 384هـ، كان ميلاد طفل مبارك أصبح له بعد ذلك شأن
كبير، فرح به والده فرحًا شديدًا، وشكر الله سبحانه وتعالى على نعمته
وعطائه.
نشأ الغلام في قصر أبيه نشأة كريمة، فقد كان أبوه وزيرًا في الدولة العامرية وتعلم القرآن الكريم، والحديث النبوي، والشعر العربي، وفنون الخط والكتابة، وتمر الأيام ويكبر الغلام، فيجعله أبوه في صحبة رجل صالح يشرف عليه، ويشغل وقت
فراغه، ويصحبه إلى مجالس العلماء.. إنه: (علي بن أحمد بن سعيد الأندلسي) الشهير بابن حزم الأندلسي.
كانت أسرته لها مكانة مرموقة وعراقة في النسب، فـ(بنو حزم) كانوا من أهل العلم والأدب، ومن ذوي المجد والحسب، تولى أكثر من واحد منهم الوزارة، ونالوا بقرطبة جاهًا عريضًا.
وكان (أحمد بن سعيد) والد (ابن حزم) من عقلاء الرجال، الذين نالوا حظًّا وافرًا من الثقافة والعلم، ولذلك كان يعجب ممن يلحن في الكلام، ويقـول: (إني لأعجب ممن يلحن في مخـاطبة أو يجيء بلفظة قلقة في مكاتبة، لأنه ينبغي له إذا شك في شيء أن يتركه، ويطلب غيره، فالكلام أوسع من هذا).
وكانت هذه الثقافة الواسعة، والشخصية المتزنة العاقلة هي التي أهلت والد ابن حزم لتولي منصب الوزارة للحاجب المنصور ابن أبي عامر في أواخر خلافة بني أمية في الأندلس، وفي القصر عاش ابن حزم عيشة هادئة رغدة، ونشأ نشأة مترفة، تحوط بها النعمة، وتلازمها الراحة والترف، فلا ضيق في رزق ولا حاجة إلى مال، وحوله الجواري الحسان ورغم هذه المغريات عاش ابن حزم عفيفًا لم يقرب معصية.. يقول في ذلك: (يعلم الله وكفي به عليمًا، أني بريء الساحة، سليم الإدام (أي: آكل حلالاً) صحيح البشرة، نقي الحجزة، وأني أقسم بالله أجل الأقسام، أني ما حللت مئزري على فرج حرام قط، ولا يحاسبني ربي بكبيرة الزنى منذ عقلت
إلى يومي هذا).
وتغيرت الأحوال؛ فقد مات الخليفة، وجاء خليفة آخر، فانتقل ابن حزم مع والده إلى غرب قرطبة بعيدًا عن الفتنة، ومن يومها والمحن تلاحق ابن حزم، فالحياة لا تستقرُّ على حال، فقد كشرت له عن أنيابها، وأذاقته من مرارة كأسها، بعدما كانت له نعم الصديق، واضطر(ابن حزم)إلى الخروج من قرطبة إلى (الـمَرِيَّة) سنة 404هـ وبعدها عاش في ترحال مستمر بسبب السياسة واضطهاد الحكام له، وكان ابن حزم واسع الاطلاع، يقرأ الكثير من الكتب في كافة المجالات، ساعده على ذلك ازدهار مكتبات قرطبة بالكتب المتنوعة، واهتمام أهل الأندلس بالعلوم والآداب، واشتهر ابن حزم بعلمه الغزير، وثقافته الواسعة، فكان بحق موسوعة علمية أحاطت بالكثير من المعارف التي كانت في عصره في تمكن وإحاطة.
قال عنه أحد العلماء (أبو عبد الله الحميدي): كان ابن حزم حافظًا للحديث
وفقهه، مستنبطًا للأحكام من الكتاب والسنة، متفنِّنًا في علوم جمَّة عاملاً بعلمه، ما رأينا مثله فيما اجتمع له من الذكاء، وسرعة الحفظ، وكرم النفس والتدين..
وبعد أن بلغ ابن حزم رتبة الاجتهاد في الأحكام الشرعية، طالب بضرورة الأخذ بظاهر النصوص في القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، وكان ابن حزم متنوع الكتابات، كتب في علوم القرآن والحديث، والفقه والأديان، والرد على اليهود والنصارى، والمنطق.. وغيرها من العلوم، قال عنه أحد المؤرخين: كان ابن حزم أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام، وأوسعهم معرفة مع توسعه في علم اللسان
(أي علوم اللغة) وزيادة حظه من البلاغة والشعر والمعرفة بالسير والأخبار.. وقد بلغ ما كتبه ابن حزم أربعمائة مجلد، تشتمل على ثمانين ألف ورقة تقريبًا، كما قال ابنه الفضل.. يقول عنه الإمام (أبو حامد الغزالي): وجدت في أسماء الله تعالى كتابًا ألفه (ابن حزم الأندلسي) يدل على عظيم حفظه وسيلان ذهنه.
شغل ابن حزم منصب الوزارة ثلاث مرات، وكان وفيًّا للبيت الأموي الحاكم في الأندلس، ومواليًا لهم، يعمل على إعادة الخلافة للدولة الأموية، ويرى أحقيتها في الخلافة، وبسبب ذلك كان يعرِّض نفسه للأسر أو السجن أو النفي، وقد دبر له خصومه المكائد، وأوقعوا بينه وبين السلطان حسدًا وحقدًا عليه، حتى أحرقت كتبه في عهد (المعتضد بن عباد) فقال ابن حزم في ذلك:
فإن تحرقوا القِرْطاس لا تَحْرِقُوا الذي
تضمَّنه القرطاسُ بَلْ هُوَ فِي صَدْرِي
يَسِيُر مَعِـــي حَيْثُ اسْتَقَلتْ رَكَائبــي
وَيَنْزِلُ إِنْ أنزل وُيدْفن في قبــــري
وقد منح الله ابن حزم ذاكرة قوية وبديهة حاضرة، فكان متواضعًا لله، شاكرًا
له، يقول في ذلك: (وإن أعجبت بعلمك فاعلم أنه لا خصلة لك فيه، وأنه موهبة من الله مجردة، وَهَبَكَ إياها ربُّك تعالى، فلا تقابلها بما يسخطه، فلعله ينسيك ذلك بعلة يمتحنك بها، تولد عليك نسيان ما علمتَ وحفظتَ).
وكان عزيز النفس، واثق الكلمة أمام خصومه وأعدائه، لا ينافق الحكام، ويرفض قبول هداياهم حتى لو سبب له ذلك الكثير من المتاعب، وكانت صفة الوفاء ملازمة له، فكان وفيًّا لدينه وإخوانه وشيوخه، ولكل من اتصل به.
وتفرغ ابن حزم للتأليف؛ فأخرج كتبًا كثيرة، مثل: (المحلَّى) في الفقه
و(الفصل بين أهل الآراء والنحل) و(الإحكام في أصول الأحكام) و(جمهرة أنْسَاب العرب) و(جوامع السير) و(الرد على من قال بالتقليد) و(شرح أحاديث الموطأ) كما يعد كتاب (طوق الحمامة) من أشهر كتبه، وفيه الكثير من الشعر الذي قاله في مختلف المناسبات.
وعاش هذا الفقيه في محراب العلم، يتصدى للظلم والجهل، ويجاهد مع ذلك هوى نفسه، وبعد حياة حافلة بالكفاح والعلم والصبر على الإيذاء، لقي ابن حزم ربه في الثامن والعشرين من شعبان سنة 564 هـ عن عمر يقارب إحدى وسبعين
سنة، ويقف (أبو يوسف يعقوب المنصور) ثالث خلفاء دولة الموحدين أمام قبره خاشعًا ولم يتمالك نفسه، فيقول: كل الناس عيال على ابن حزم.

أحمد بن حنبل

خرجت صفية بنت ميمونة بنت عبد الملك الشيباني من مدينة (مرو) وهي تحمل في بطنها جنينًا، وما إن وصلت إلى بغداد حتى ولدت (أحمد بن حنبل) في شهر ربيع الأول سنة 164هـ.
كان والده قائدًا في جيش خراسان، أما جده فكان واليًا للأمويين في بلدة تسمى (سرخس) تابعة لبلاد خراسان، وحين بلغ أحمد من العمر ثلاث سنوات توفي
والده، فنشأ يتيمًا، تكفله أمه وترعاه، وتقوم على تربيته والعناية به، وعاش أحمد عيشة فقيرة، فلم يترك له والده غير منزل ضيق، مما دفعه إلى العمل وهو طفل
صغير، فكان يلتقط بقايا الزروع من الحقول بعد استئذان أهلها، وينسج الثياب ويبيعها، ويضطر في بعض الأوقات أن يؤجر نفسه ليحمل أمتعة الناس في
الطريق، وكان ذلك عنده أفضل من أن يمد يده إلى غيره.
حفظ أحمد القرآن الكريم، ولما بلغ أربع عشرة سنة، درس اللغة العربية، وتعلم الكتابة، وكان يحب العلم كثيرًا حتى إن أمه كانت تخاف عليه من التعب والمجهود الكبير الذي يبذله في التعلم، وقد حدث ذات يوم أنه أراد أن يخرج للمكان الذي يتعلم فيه الصبية قبل طلوع الفجر، فجذبته أمه من ثوبه، وقالت له: يا أحمد انتظر حتى يستيقظ الناس.
ومضت الأيام حتى بلغ أحمد الخامسة عشرة من عمره فأراد أن يتعلم أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من كبار العلماء والشيوخ، فلم يترك شيخًا في بغداد إلا وقد استفاد منه، ومن شيوخه: أبو يوسف، وهشيم بن مشير.
وفكَّر أحمد أن يطوف ببلاد المسلمين ليلتقي بكبار علمائها وشيوخها لينقل عنهم الأحاديث التي حفظوها، فزار الكوفة والبصرة، ومكة، والمدينة، واليمن، والشام والعراق وفارس وغيرها من بلاد الإسلام، فكان في رحلاته إذا لم يجد دابة
يركبها يمشي حتى تتشقق قدماه ليلتقي بكبار العلماء في هذه البلاد، وظل أحمد طيلة حياته ينتقل من بلد إلى آخر، ليتعلم الحديث حتى أصبح من كبار العلماء.
سأله أحد أصحابه ذات يوم: إلى متى تستمر في طلب العلم، وقد أصبحت إمامًا للمسلمين وعالمًا كبيرًا؟! فقال له: (مع المحبرة إلى المقبرة) ومعنى ذلك أنه سيستمر في طلب العلم إلى أن يموت ويدخل القبر، ولم يكن في عصره أحد أحفظ منه لحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى سَمَّوْه (إمام السنة وفقيه المحدثين) وقالوا: إنه كان يحفظ ألف ألف حديث!! شملت المكرر من الحديث والآثار، وفتوى التابعين ونحو ذلك.
وبعد أن تعلم الإمام أحمد بن حنبل ما تعلم، وحفظ ما حفظ من أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جلس في المسجد الجامع ببغداد سنة (24هـ) وعمره أربعون سنة، ليعلم الناس أمور دينهم؛ فأقبل الناس على درسه إقبالا عظيمًا، فكانوا يذهبون إلى المسجد في الصباح الباكر ليتخذوا لهم مكانًا يجلسون فيه.
وكان أغلى شيء عند الإمام أحمد بن حنبل ما جمعه من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لذلك كان يكتبه في أوراق يحفظها في مكان أمين، وقد حدث ذات يوم أن سرق لص منزله، فأخذ ملابسه وكل ما في بيته، فلما جاء الإمام أحمد إلى البيت، لم يسأل عن شيء إلا عن الأوراق التي يكتب فيها أحاديث رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- ولما وجدها اطمأن قلبه ولم يحزن على ما سرق منه.
ولم يكن الإمام أحمد بن حنبل مجرد حافظ لأحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- بل كان يعمل بما في هذه الأحاديث، فيقول عن نفسه: ما كتبتُ حديثًا إلا وقد عملتُ به، وكان الإمام أحمد زاهدًا في الدنيا، يرضى بالقليل، فقد كان كثير العبادة والذكر لله.
وقد تعرض الإمام أحمد -رضي الله عنه- للتعذيب والأذى بسبب شجاعته من مواجهة الفتن والبدع التي حدثت في زمانه، تلك الفتن التي تعرض من أجلها للضرب والسجن في عهد الخليفة المعتصم، فكان يُضرب بالسياط، حتى أغمي عليه عدة مرات، ودخل السجن وظل فيه عامين ونصف، ثم خرج منه مريضًا يشتكي من الجراح، وظل في منزله بعض الوقت؛ حتى شفي وعاد إلى درسه، ولما تولى الخليفة (الواثق) الخلافة لم يتعرض الإمام أحمد للإيذاء، لكنه منعه من الاجتماع بالناس، فظل معزولاً عنهم، حتى مات الخليفة (الواثق) وتولى (المتوكل) الخلافة الذي عامل الإمام أحمد معاملة حسنة وعرض عليه المال، فرفضه، لكنه ألح عليه أن يأخذه، فتصدق به كله على الفقراء.
ورغم انشغال الإمام أحمد الشديد بالعلم وضيق وقته فإنه كان شديد الاهتمام بمظهره، فقد كان من أنظف الناس بدنًا، وأنقاهم ثوبًا، شديد الاهتمام بتهذيب شعر رأسه، وكان الإمام أحمد يميل إلى الفقراء، ويقربهم منه في مجلسه، وكان حليمًا، كثير التواضع تعلوه السكينة والوقار، وكان إذا جلس في مجلسه بعد العصر لا يتكلم حتى يُسأل، كما كان -رضي الله عنه- شديد الحياء، كريم الأخلاق، سخيًّا، وكان مع لينه شديد الغضب لله.
والإمام أحمد مؤسس المذهب الحنبلي أحد المذاهب الفقهية الأربعة، وقد ترك الإمام أحمد كتبًا كثيرة منها: (المسند) وهو أكبر كتبه وأهمها بل هو أكبر دواوين السنة النبوية، إذ يحتوي على أربعين ألف حديث، وكتاب (الزهد) و(الناسخ
والمنسوخ).
ومرض الإمام أحمد -رضي الله عنه- واشتد عليه المرض يوم خميس، فتوضأ، فلما كانت ليلة الجمعة الثاني عشر من شهر ربيع الأول سنة 241هـ، وفي بغداد صعدت روحه إلى بارئها، فحزن عليه المسلمون حزنًا شديدًا، وصاح الناس، وعلا
بكاؤهم، حتى كأن الدنيا قد ارتجت، وامتلأت السكك والشوارع، وأخرجت الجنازة بعد انصراف الناس من صلاة الجمعة، وشيعه ما يقرب من ست مائة ألف إنسان، بالإضافة إلى الذين صعدوا إلى أسطح المنازل ليلقوا نظرة الوداع الأخيرة على الإمام أحمد بن حنبل.

الشافعي


قال له الإمام مالك: إن الله تعالى قد ألقى في قلبك نورًا فلا تطفئه بالمعصية، واتق الله فإنه سيكون لك شأن!!
في غزة بأرض فلسطين سنة 150هـ، وضعت (فاطمة بنت عبد الله الأزدية) مولودها (محمد بن إدريس الشافعي) في نفس العام الذي توفي فيه الإمام (أبو حنيفة) ليموت

أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري

أبو يوسف
في مدينة الكوفة ولد أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري سنة 113هـ، وتطلع إلى العلم والدراسة فلم يجد خيرًا من مجلس الفقيه الكبير (أبي حنيفة) فتتلمذ على يديه، ودرس عنده أصول الدين والحديث والفقه.
ولصحبته لأبي حنيفة قصة يرويها لنا (أبو يوسف) فيقول

مالك بن أنس


بُشِّر أنس بن مالك بن أبي عامر ذات يوم ببشرى سعيدة، فقد رزقه الله بمولود أسماه (مالكًا) كان ذلك الحدث السعيد سنة ثلاث وتسعين من الهجرة على بقعة من أطهر بقاع الأرض وهي المدينة المنورة، البلد الذي هاجر إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، فاستنارت بهم وازدانت

القاضي شريك

شريك بن عبد الله
القضاء.. العدل.. الظلم.. حق الناس.. حق الله.. كلمات أخذ يرددها شريك بينه وبين نفسه عندما عرض عليه الخليفة أن يتولى قضاء (الكوفة) فما أعظمها من مسئولية!!
في مدينة (بُخارى) بجمهورية أوزبكستان الإسلامية الآن، وُلِدَ شريك بن عبد الله النخعي سنة خمس وتسعين للهجرة، ولمـَّا بلغ من العمر تسع سنوات أتم حفظ القرآن الكريم، ثم درس الفقه والحديث، وأصبح من حفـاظ أحاديث رسـول الـلـه صلى الله عليه وسلم.
وفي مدينة الكوفة اشتهر بعلمه وفضله، فأخذ

الليث بن سعد

لله درك يا إمام.. لقد حزت أربع خصال لم يكملن لعالم: العلم، والعمل، والزهد والورع.
في سنة 94هـ، وفي أحد أيامها المباركة ولد الليث بن سعد، في قرية (قرقشندة) من قرى مصر، ونشأ ذلك الطفل بين ربوع تلك القرية، فوجد الأطفال يتعلمون القراءة والكتابة ويحفظون القرآن الكريم، فأسرع الليث إلى منزله، وأحضر أوراقه
وقلمه، وبدأ يحفظ القرآن الكريم، ثم درس الحديث والفقه والعلوم العربية، فسبق زملاءه، وساعده على ذلك نبوغه المبكر، وذكاؤه الفريد.
واصل الليث الدراسة والتعلم والحفظ، فكان كلما قرأ شيئًا في الفقه أو الحديث عَلَقَ بذاكرته وحفظه فلا ينساه أبدًا، فقد كان قوي الذاكرة، جيد الحفظ، ولفت الفتى الليث الأنظار إليه بعلمه وورعه، وأصبحت له مكانة كبيرة بين أهله، يعرفون
فضله، ويقدمونه على من سواه، ولكن الفتى لم يغترَّ بهذه الشهرة، ولم يخلد إليها ولا إلى التقدير الذي كان له وسط العلماء، بل استمر يتعلم ويتزود وينهل من غيره من العلماء، حتى صار أستاذًا يدرس للعلماء.
واشتاقت نفس الليث يومًا لزيارة بيت الله الحرام وزيارة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فشدَّ رحاله وأعد نفسه للسفر، وهناك في تلك الأراضي المقدسة كانت حلقات العلم منتشرة في كل مكان؛ والتقى هناك بـ(عطاء بن أبي رباح) و(ابن أبي مليكة) و(نافع مولى ابن عمر) و(ابن شهاب الزهري).. وغيرهم، فأخذ عنهم ونهل منهم رغم رسوخه في العلم، ومضت الأيام والسنون، وأصبح الليث شيخًا جاوز الخمسين من عمره، وهو لا يمل العلم والتعلم؛ حتى أصبح من كبار العلماء في عصره.
وكان الإمام الفقيه الليث بن سعد غنيًّا، ينفق كل سنة على الفقراء والمساكين أكثر من خمسين ألف دينار ولا يدخر منها شيئًا لنفسه، ويتصدق في كل صلاة على ثلاثمائة مسكين، ويطعم الناس عسل النحل وسمن البقر في الشتاء، واللوز والسكر في الصيف.
جاءته امرأة ذات يوم وقالت له: يا شيخنا، إن لي ابنًا مريضًا يشتهي أكل
العسل، فقال الليث: يا غلام، أعطها مرطًا من عسل (والمرط: مائة وعشرون رطلاً) وكان مع المرأة إناء صغير الحجم، فلما رآه الغلام قال: يا شيخنا إنها تطلب قليلاً من العسل، فقال الليث: إنها طلبت على قَدْرِهَا ونحن نعطيها على قدرنا، وأمره أن يعطيها المرط.
ولم يكن الليث بن سعد كريمًا على أهل بلده فحسب، بل كان سخيًّا كريم اليد على الآخرين، فيحكى عنه أنه لما جاء إلى المدينة المنورة بعث إليه الإمام مالك بن أنس بطبق من الرطب، فلم يشأ الليث أن يرد الطبق إلى الإمام مالك خاويًا، فوضع في الطبق ألف دينار ورده إليه.
وقد شهد له كثير من علماء عصره بعلمه وفضله؛ سئل الإمام أحمد بن حنبل ذات مرة عن الليث، فقال: الليث بن سعد كثير العلم، صحيح الحديث، وقال عنه
يحيى بن بكير: ما رأيت أحدًا أكمل من الليث بن سعد، كان فقيه البدن، عربي اللسان، يحسن القرآن والنحو، ويحفظ الحديث والشعر، حسن المذاكرة، لم أَرَ
مثله.
وقد عرض عليه الخليفة المهدي ذات يوم أن يتولى القضاء، ويعطيه من بيت المال
مائة ألف درهم، فرفض وقال: إني عاهدت الله ألا ألي شيئًا، وأعيذ أمير المؤمنين
بالله ألا أفي بعهدي، فقال له المهدي: الله.. قال الليث: الله.. قال المهدي: انطلق فقد أعفيتك، وكان الليث زاهدًا في حكام الدنيا، مشغولاً عن الجاه والسلطان بغرس الأخلاق العظيمة في نفوس الناس، وكان يصل النهار بالليل في العلم والعبادة ليرضي ربه.
وفي سنة 175هـ توفي الإمام الكبير الليث بن سعد، فحزن الناس عليه حزنًا
شديدًا، وكان الشافعي -رضي الله عنه- يحب لقاءه، فلم يمهله القدر فوقف يومًا على قبره وقال: لله درك يا إمام، لقد حزت أربع خصال لم يكملن لعالم:
العلم، والعمل، والزهد، والورع.

أبو حنيفة النعمان

كان كثير العبادة، لا ينام الليل إلا قليلا؛ حتى سموه (الوتد) لكثرة صلاته، يبكي حتى يسمع جيرانه بكاءه فيشفقون عليه مما هو فيه من خوف ووجل من الله!!
وأبوه (ثابت) كان تاجرًا غنيًّا أسلم فحسن إسلامه، قيل: إنه التقى بالإمام
على بن أبي طالب -رضي الله عنه- فدعا له الإمام ولذريته بالخير
والبركة، واستجاب الله الدعاء، ورزق الله ثابتًا بطفل أسماه النعمان وكناه
(أبا حنيفة النعمان بن ثابت) وكانت ولادته سنة ثمانين للهجرة بمدينة الكوفة.
نشأ أبو حنيفة في مدينة الكوفة، فوجد الحلقات العلمية منتشرة في كل مكان، ورأى طلاب العلم يتعلمون ويجتهدون في الدراسة؛ فتلقى العلم على يد شيوخ وأساتذة كبار، منهم: فقيه الكوفة (حماد بن أبي سليمان) والإمام (جعفر الصادق) و(عطاء) و(الزهري) و(قتادة).. وغيرهم، وكان(حماد) من أكثر شيوخه الذين يحبهم؛ فكان أبو حنيفة يحفظ أقواله ويرددها، وأعجب حماد هو الآخر بتلميذه (أبي حنيفة) حتى قال لمن حوله: لا يجلس في صدر الحلقة بجواري غير أبي حنيفة.
وبعد موت حماد تولى ابن له اسمه إسماعيل حلقة الدرس بدلا من أبيه، لكنه ترك مجلس الفقه وانتقل إلى النحو لحبه له، فجاء الناس إلى (أبي حنيفة) يطلبون منه أن يجلس إليهم ويعلمهم أمور دينهم؛ فقبل أبو حنيفة، وأخذ يدرس للناس حتى اشتهر فقهه بين البسطاء والأمراء، لكنه لم ينْسَ فضل شيخه وأستاذه (حماد) بل ظل يذكره بالخير، ويدعو له حتى قال أبو حنيفة: (ما صليتُ قط إلا ودعوتُ لشيخي (حماد) ولكل من تعلمتُ منه علمًا أو علمته).
وكان أبو حنيفة يهتم بملبسه ومظهره، ويكثر التعطر، ويُرى وقورًا حليمًا، فهو الذي يقول: (اللهم من ضاق بنا صدره، فإن قلوبنا قد اتسعت له) ولقد سبه أحد الناس بقوله: يا مبتدع، يا زنديق، فردَّ عليه بقوله: غفر الله لك، الله يعلم مني خلاف
ذلك، وأني ما عدلت به (أي ما أشركت به أحدًا) منذ عرفته، ولا أرجو إلا
عفوه، ولا أخاف إلا عقابه.
وكان أبو حنيفة كريمًا واسع الكرم، وتاجرًا أمينًا ماهرًا، ظل يعمل بالتجارة طوال حياته، وكان له دكان معروف في (الكوفة) كان أبو حنيفة -رضي الله عنه- يحب العمل حتى ينفق على نفسه، فكان يبيع الخز (وهو نسيج من الصوف).
سمع أبو حنيفة رجلاً يقول لآخر: هذا أبو حنيفة لا ينام الليل؛ فقال: والله لا يتحدث عني بما لم أفعل؛ فكان يحيي الليل صلاة وتضرعًا، فكان ورعًا، ولا يحدث بالحديث الذي يحفظه، ولا يحدث بما لا يحفظ، وكان يتورع عن القسم خشية الهلاك، حتى إنه جعل على نفسه إن حلف بالله صادقًا أن يتصدق بدينار.
وكان واسع الصدر هادئ الطبع في حديثه مع الناس، فلقد روي أن رجلاً قال له: اتق الله، فانتفض، وطأطأ رأسه، وأطرق.. وقال له: يا أخي جزاك الله خيرًا، ما أحوج الناس في كل وقت إلى من يذكرهم الله تعالى، وكان يخاف عاقبة الظلم؛ لذا رفض تولي القضاء للخليفة المنصور العباسي.
ومات سنة 150هـ، وصلى عليه خمسون ألف رجل، ودفن في بغداد، ويقال إنه مات في نفس الليلة التي ولد فيها الإمام الشافعي.
وأبو حنيفة هو مؤسس المذهب الحنفي أحد المذاهب الفقهية الأربعة، وقد انتشر مذهبه في العراق والهند وبلاد المشرق، يقول عنه الشافعي: (الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة) وقال عنه النضر بن شميل: كان الناس نيامًا في الفقه حتى أيقظهم
أبو حنيفة، وقيل: لو وزن علم الإمام أبي حنيفة بعلم أهل زمانه لرجح علمه
عليهم، وقال عنه ابن المبارك: (ما رأيت في الفقه مثل أبي حنيفة) وقال عنه
يزيد بن هارون: (ما رأيت أحدًا أحلم من أبي حنيفة).